جاء في الآية 93 من سورة المائدة " لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ " .
إذا اتقى المؤمن المحارم وعمل الصالحات فلا يضره بعد ذلك عمل، طالما أنّه يتحرى الحلال ويمارس العمل الصالح. وتكون التقوى في الدرجة الأولى بالابتعاد من المحرمات والمكروهات، أي بالابتعاد عن عوامل الهدم قبل الاشتغال بالبناء. أما العمل الصالح فهو في الحقيقة بناء وارتقاء، ويكتسب كل ذلك قيمة في الشرع عندما يقوم على أساس من الإيمان الصحيح.
لقد أشكلت هذه الآية على كثير من أهل التفسير، ومنهم سيد قطب، رحمه الله؛ عند تفسيره لقوله تعالى: " إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا " بعد قوله: " إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ". والذي نراه أنّ الآية الكريمة تكشف لنا عن حقيقة العلاقات بين الإيمان والعمل الصالح. فمعلوم أنّ جمهور أهل السُنّة والجماعة يُعرّفون الإيمان بأنه: تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعملٌ بالأركان. وقد خالف أبو حنيفة، رحمه الله، فاعتبر أنّ الإيمان هو تصديق بالقلب وإقرار باللسان. أي أنّ العمل الصالح عند أبي حنيفة لا يدخل في ماهية الإيمان.
لا شك أنّ الإيمان تصديق بالدرجة الأولى، وينبني على هذا التصديق فعل وترك، وهذا واضح في قوله تعالى: "إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ". وعندما يكون الكف عن المحارم وعمل الصالحات نابعاً عن الإيمان، وعندما يصبح عادة وديدناً للإنسان، تنشأ عن ذلك علاقة جدلية ارتقائية؛ أي أنّ العمل الصالح الذي يصدُر عن إيمان يقوي هذا الإيمان، ثم لا يلبث هذا الإيمان القوي أن يقود إلى عمل أصلح،... وهكذا في مسيرة ارتقائية. ومن هنا قال جمهور أهل السُنّة والجماعة: "الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي".
عندما يحصل مثل هذا الارتقاء لا تعود تلاحظ خطوطاً فاصلة بين حقيقة الإيمان وحقيقة العمل. وحتى تتضح الفكرة نضرب مثالاً بالأشخاص الذين يتعلمون الطباعة على الآلة الكاتبة، حيث يلزمهم معرفة الحروف ومواقعها على لوحة المفاتيح. وعندما يمارس المبتدئ عملية الطباعة يكون حاضر الذهن مفتوح العيون فلا يضغط على مفتاح الحروف حتى يتعرف عليه، ومن هنا تكون العملية في البداية في غاية البطء والتكلّف. وبعد حين ونتيجة للممارسة الطويلة ذهنياً وعملياً نجد أنّ متقن الطباعة لا يعود يفكر في مواقع الحروف ولا يعود يتكلف الأمر، بل يحصل اندماج بين الفكرة والسلوك ويصبح الفعل سليقة، ولا تعود تلاحظ خطوطاً فاصلة بين الفكرة والسلوك.
فالآية الكريمة تتحدث إذن عن الحالة الارتقائية الاندماجية التي تنتج عن ممارسة العمل الصالح على أساس من الإيمان.
فالبداية إذن:" اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا"، ثم: " اتَّقَوْا وَآَمَنُوا "، أي أنه لم يعد هناك فصل بين حقيقة الإيمان والعمل، بل إنّ الأمر يصل في مسيرة الارتقاء إلى حالة هي أرقى من الإيمان، ألا وهي الإحسان، حيث يكون التصديق أقرب إلى عالم المشاهدة، وحيث يكون العمل في أبهى صورة، ويصدر عن المحسن من غير فكر ولا رَويّة :" ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا" .
إنّ أمثال هؤلاء إذا ما استشكل عليهم حكم شرعي، ولم يصل بهم فقههم إلى ترجيحٍ ظاهر يكفيهم عندها فتوى القلوب، تماماً كما هو الأمر عندما ننظر بأكثر من عين وتكون لدينا صورة واحدة.