ادعمنا في نشر واستمرارية هذا الموقع

جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم:" لا يحتكر إلا خاطئ". وقد عرّف بعض العلماء الاحتكار بأنه: "حبس السلعة مع حاجة الناس إليها ليرتفع بذلك سعرها". أمّا الخاطئ فهو المذنب الآثم، بخلاف المخطئ الذي لا يتعمد الذنب.
وقد ذهب الشافعي وآخرون إلى أنّ الاحتكار المحرم هو احتكار الأقوات، في حين نجد أنّ المالكيّة يذهبون إلى أنّ الاحتكار المحرّم يكون للأقوات ولغيرها من السِّلع، لعموم قول الرسول، صلى الله عليه وسلم:" لا يحتكر إلا خاطئ". ويبدو أنّ الشافعي ومن معه يستندون إلى الحديث الذي ينص على احتكار الطعام؛ فقد روي:" من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله، عز وجل، وبرئ الله منه"، وهذا الحديث، الذي رواه عبد الله بن عمر، له شواهد جعلت العلماء يحكمون بصحته. والمتدبر للحديث يجد أنّ الوعيد فيه أشد من الوعيد الوارد في حديث مسلم، وهذا مفهوم، لأنّ احتكار الطعام أخطر وأضر بالناس من احتكار السلع الأخرى، وهذا لا يعني أنّ الاحتكار المحرم ينحصر في احتكار الطعام، بل يعني أنّ احتكار الطعام أكبر إثماً من احتكار باقي السلع. وعليه نجد أنّ الصواب ما ذهب إليه المالكية، وما ذهب إليه أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة، من أنّ كل ما أضرّ بالناس حبسه فهو احتكار.
وعلى الرغم من كون نظام الاقتصاد الإسلامي يحمي الملكيّة الفردية، ويحترم جهد الأفراد ويقدره، إلا أنه أعطى ولي الأمر صلاحية إجبار المحتكر على بيع السلعة المحتكرة بقيمة المثل، كيف لا، وقد تعارضت المصلحة الفردية مع المصلحة العامّة؟!
وحتى لا يبقى مفهوم الاحتكار غامضاً، ولمزيد من تحديد المفهوم نقول: إنّ الاحتكار يكون محرماً شرعاً عندما يقوم مالك السلعة بحبسها بقصد رفع السعر، وتكون الكميّة المحبوسة مؤدية فعلاً إلى رفع السعر، ويكون هذا الحبس ضاراً بالناس. وعليه لا يكون من يحبس السلعة بقصد الانتفاع بها محتكراً، وكذلك لا يعتبر محتكراً من يحبس كميّات لا تؤدي إلى رفع السعر، أو من يحبس سلعة فلا يُلحق ضرراً بالناس. ويجدر التنبيه هنا إلى أنّ ما قيل في السلع يقال أيضاً في الخدمات، فلا يجوز احتكار خدمة بحيث يلحق ذلك ضرراً بالجمهور.
لو قام تاجر ملابس بحبس كميات كبيرة من بنطال الجينز، وأدّى هذا الحبس إلى ارتفاع الأسعار، فلا يُعتبَر ذلك احتكاراً لأنّ الناّس تمتلك بدائل أخرى. وكذلك لا يُعد احتكاراً حبس كميّات كبيرة من الحمص التركي، مثلاً، ولو بقصد رفع السعر، لأنّ الناس لديها بدائل أخرى.
واليوم نجد أنّ الدول التي تعتمد الاقتصاد الحر تضع التشريعات المختلفة للحد من الاحتكار، وذلك لأنّ الاحتكار يجعل المنافسة في السوق غير عادلة، وهو يتناقض مع آليات العرض والطلب، وفيه أيضاً إقصاء قسري للمنافسين الأضعف اقتصادياً، كما ويؤدي في النهاية إلى الانفراد بالسوق، سواء كانت سوقاً للسلع أو للخدمات. وهذا يعني أنّ التشريعات الدينية والدنيوية قد التقت في محاربة الاحتكار، وهذا يدل على قبح الاحتكار شرعاً وعقلاً.
وبتطور الاقتصاد في المجتمعات المعاصرة تطورت الاحتكارات أيضاً؛ فهناك من لا يحبس السلعة، ولكنه يبيع بأقل من سعر التكلفة بقصد ضرب المنافسين وإقصائهم من السوق، وهناك من يتعمد تخفيض الإنتاج لتكون الندرة فترتفع الأسعار، وهناك من المنتجين والمستثمرين من يتواطأ عن طريق الاتفاقيات للتحكم بالأسعار ... إلى غير ذلك من صور الاحتكار المعاصرة، والتي تحرمها الشرائع والقوانين، نظراً لإخلالها بالعدالة الحقة والحرية الجوهرية.
إنّ حماية المستهلك من الاحتكار لا ينبغي أن تكون على حساب المنتج أو المستثمر، بل لا بد من التوازن، فلا يُظلم طرف لحساب آخر، لأننا بحاجة إلى تشجيع الإنتاج والاستثمار، وفي ذلك مصلحة للمستهلك أيضاً.